أنزل الله عز وجل كتابه التوراة على موسى وكلف الله اليهود حفظ التوراة فضيعوها، وحملهم التوراة فلم يحملوها بل زوروها وحرفوها
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
لا يخفى على أحد مدى المعاناة التي لاقاها المهاجرون في رحلتهم الطويلة إلى الحبشة، وعلى الرغم من هذه الصعوبات والتحديات فقد وصلت الجماعة المؤمنة إلى
لا يخفى على أحد مدى المعاناة التي لاقاها المهاجرون في رحلتهم الطويلة إلى الحبشة، وقد مرَّ بنا -على سبيل المثال- موقف ولادة محمد بن حاطب بن الحارث رضي الله عنهما حيث قال: «فخرج حاطب وجعفر في البحر قِبَل النجاشي، قال: فوُلِدْتُ أنا في تلك السفينة»[1].
فهذا حاطب بن الحارث رضي الله عنه يأخذ زوجته، وهي حامل في شهورها الأخيرة في هذه الرحلة الطويلة، وتحدث الولادة في السفينة البسيطة التي يركبونها، وقد اختلف الرواة في تحديد اسم هذه الأم الصابرة؛ فمنهم من قال: إنها أم جميل فاطمة بنت المجلل. ومنهم من قال: جويرية بنت المجلل. بينما قال فريق ثالث: أسماء بنت المجلل[2]. وبصرف النظر عن اسم المهاجرة العظيمة، فإنَّ هذه القصة تُصَوِّر لنا مدى المعاناة التي عاشتها الجماعة المؤمنة رجالًا ونساءً وأطفالًا في سبيل الحفاظ على دينهم.
وعلى الرغم من هذه الصعوبات والتحديات فقد وصلت الجماعة المؤمنة إلى الحبشة بأمان، وأرى أنهم لم يتوغَّلوا في الحبشة في بادئ أمرهم، إنما عسكروا على شاطئ البحر الأحمر في إحدى المدن الساحلية، ولم يقابلوا النجاشي في هذه المرحلة؛ والذي يدعوني إلى هذا القول هو أن رواية أبي موسى الأشعري ذكرت أن عمرو بن العاص عندما أُرْسِل إلى النجاشي لاسترداد المسلمين -كما سَنُبَيِّنَ في الصفحات القادمة- قال له عمرو: «إِنَّ قَوْمًا مِنَّا رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا، وَهُمْ فِي أَرْضِكَ. فَقال لَهُم النَّجَاشِيُّ: فِي أَرْضِي؟ قَالُوا: نَعَمْ». وكذلك في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سأل النجاشيُّ عمرو بنَ العاص: فَأَيْنَ هُمْ؟
ففي هذه الروايات دلالة على عدم معرفة النجاشي بأمر المهاجرين المسلمين؛ إلَّا بعد قدوم عمرو بن العاص، وهذا فيه دليل قوي على تقارب الوقت بين قدوم الوفد المسلم وقدوم عمرو بن العاص ومَنْ معه من المشركين، وهذا ما ذكرناه قبل ذلك عند كلامنا عن عمارة بن الوليد، ويبدو أن جعفرًا رضي الله عنه وأصحابه قد آثروا أن يبقوا على الساحل، على أمل أن يكون هناك حلٌّ قريب لأزمة مكة؛ فيعودوا أدراجهم بسرعة، ويبدو كذلك أن استقبالهم في المدينة الساحلية كان طيِّبًا؛ لأنه لم تُثَر بسبب وجودهم مشكلات ترفع الأمر إلى النجاشي، والذي أعتقده أن عاصمة الحبشة في ذلك الوقت، وبالتالي مقر النجاشي، كانت في وسط الحبشة على ضفاف النيل، أي بعيدة عن ساحل البحر الأحمر، وسوف أناقش هذه النقطة في أثناء قصة الحبشة إن شاء الله.
ذاع صيت الأمان الذي وجدته الجماعة المؤمنة المهاجرة إلى الحبشة، وذكر ذلك عمرو بن العاص في روايته حيث قال: «لَمَّا رَأَيْتُ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ آمِنِينَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ حَسَدْتُهُ».
وضح إذن من رواية عمرو بن العاص أن قريشًا كانت تتابع الأحداث، وتهتمُّ بأمر المهاجرين، ولم تعتبر خروجهم من مكة حلًّا لمشاكل البلد الحرام، بل -كما وَضَّحْنَا قبل ذلك- أرادت أن تُعيدهم إلى مكة قسرًا؛ حتى يمكن لها أن تُسيطر على الوضع قبل تفاقمه.
ولقد آثرت قريش أن تأخذ موقفًا فعَّالًا حاسمًا دون انتظار للمفاجآت التي يمكن أن تحدث إذا آمنت الحبشة، أو على الأقل إذا اطمأنَّ فيها المسلمون على دينهم وأنفسهم، ففكَّرت في إرسال سفارة قوية إلى النجاشي تطلب منه -وبشكل مباشر- أن يُعيد المسلمين المهاجرين إلى بلدهم مكة، وكأنهم مجموعة من المجرمين الذين أُقيمت عليهم أحكام معينة، وليسوا مجموعة من الشرفاء النبلاء الذين ظُلِموا في بلادهم، فتركوها مسالمين إلى غيرها.
ولـمَّا كانت المهمَّة كبيرة، والنتائج المترتبة عليها مؤثِّرة، أخذت قريش بالأسباب التي تضمن نجاح هذه المهمَّة، وحرصت على توفير عدَّة عوامل تؤدي إلى تحقيق مرادها..
وكانت هذه العوامل تشمل ما يلي:
أولًا: تكوين وفد قوي، وسفارة محترمة تلفت الأنظار، وقد كان هذا الوفد مكوَّنًا من مجموعة كبيرة من الرجال لم أقف على عددهم تحديدًا، وإن كان ظهر في رواية عمرو بن العاص أنهم كثيرون؛ حيث قال في روايته وهو يصف لقاءه مع جعفر رضي الله عنه في حضرة النجاشي: «وجعلتُ بين كل رجلين من أصحابه رجلًا من أصحابي». ولقد وضع القرشيون على رأس هذا الوفد أحد أكبر دهاتهم -وهو عمرو بن العاص- في استعداد تامٍّ لمناورات ومناظرات مع جعفر رضي الله عنه أو النجاشي، كما أنه يتميَّز بصفات أخرى مهمَّة تُؤَهِّله لهذه القيادة الدبلوماسية؛ فهو صديق شخصي قديم للنجاشي[3]، وهو عارف باللغة الحبشية، وفوق هذا فهو مكلوم بصورة شخصية من المسلمين، وله ثأر خاصٌّ به؛ حيث إن هذا الوفد المسلم المهاجر يضمُّ بين صفوفه أخاه هشام بن العاص، ولا شكَّ أن أباهما العاص بن وائل كبير بني سهم، وأحد زعماء مكة المعدودين، قد حمَّل عَمْرًا مسئولية إعادة الابن الهارب.
وإضافة إلى هذه القيادة المتميِّزة فقد وضعت قريش مع عمرو أحد كبار الأشرار في مكة وهو عمارة بن الوليد، وهو أحد السبعة الذين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم في صحن الكعبة منذ عدَّة أشهر فقط، وهو ابن الزعيم الكبير الوليد بن المغيرة أغنى أغنياء مكة، وكان عمارة من أجمل فتيان مكة وأبهاهم منظرًا، وهذا ليعطي هيبة وجلالًا للوفد القرشي.
ومعهما وضع المشركون على قمة الوفد كذلك قائدًا ثالثًا هو عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وهو أخو أبي جهل لأُمِّه، وكان اسم عبد الله قبل أن يُسلم بجيرًا، فلما أسلم سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله[4]، وعنده مشكلة شخصية كذلك مع المسلمين؛ حيث كان أخوه عباس بن أبي ربيعة أحد المهاجرين إلى الحبشة.
ثانيًا: حمَّلت قريش الوفد بالهدايا الثمينة؛ خاصة من الجلود، وهي هدايا كانت تطيب كثيرًا لأهل الحبشة، وهذا على سبيل الرشوة لملك الحبشة ورجال حكومته، وقد كلَّفهم ذلك مالًا كثيرًا، فكانوا كما وصف الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ}[الأنفال: 36]، فعلى الرغم من حُبِّهم للمال، فإن كراهيتهم للإسلام دفعتهم إلى إنفاق هذا المال المحبوب إلى النفس.
ثالثًا: اهتمَّت قريش بتكوين فريق عمل مساعد لها في داخل أرض الحبشة؛ فجمعت الهدايا لرجال حكومة النجاشي، ولم تجعلها للمَلِك فقط.. تقول أم سلمة رضي الله عنها: «فَجَمَعُوا لَهُ هَدَايَا وَلِبَطَارِقَتِهِ، فَلَمْ يَدَعُوا مِنْهُمْ رَجُلًا إِلَّا هَيَّئُوا لَهُ هَدِيَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ، ثُمَّ ادْفَعُوا إِلَيْهِ هَدَايَاهُ». فبهذه الطريقة سيُكَوِّن عمرو بن العاص وأصحابُه فريقًا من المساعدين من أهل الحبشة أنفسهم، وهم أهل شورى الْمَلِك.
رابعًا: حذَّرت قريش رجال السفارة المكية من إعطاء المسلمين فرصة الكلام؛ فقالوا للوفد: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَافْعَلُوا». فقريش تعرف قوَّة حُجَّة المسلمين، وهكذا تُريد أن تسمح لنفسها بإطلاق الشائعات حول المؤمنين، دون أن تعطي المسلمين فرصة الدفاع عن أنفسهم؛ وذلك لأنها تُدرك إدراكًا جيدًا أنه لو تكلم المسلمون لأقنعوا الناس بكلامهم ومنطقهم.
خامسًا: جعلت قريش الورقة الأخيرة في كلامها مع النجاشي هو التهديد المباشر بقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين؛ فقد قال عمرو بن العاص للنجاشي في حواره معه: «وَإِنَّكَ وَاللهِ إنْ لَمْ تَقْتُلْهُ -يَعْنِي جَعْفَرًا رضي الله عنه- وَأَصْحَابَهُ لا أَقْطَعُ هَذِهِ النُّطْفَةَ إِلَيْكَ أَبَدًا أَنَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي». ولا شكَّ أن عمرًا لا يجرؤ على أخذ هذا القرار من تلقاء نفسه؛ ولكنها رسالة حمَّلتها إيَّاه مكة، وبلَّغها هو بصورة كاملة.
تحرَّكت السفينة بالوفد القرشي الكبير محمَّلة بالرجال والهدايا، وفي الطريق حدثت بعض المشاحنات بين عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، أفاضت الكتب في ذِكْرِهَا[5]، وكان من جرَّائها أن حقد عمرو بن العاص على عمارة بن الوليد، وأراد أن يُدَبِّر له مكيدة ليتخلَّص منه بعد الوصول إلى الحبشة، وهذا من تدبير ربِّ العالمين، حيث سيُؤَدِّي هذا الشقاق إلى التخلُّص من أحد شياطين قريش، وهو عمارة بن الوليد، وهو استجابة سريعة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في بيت الله الحرام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أحمد (18304)، وقال شعيب الأرناءوط: رجاله ثقات. والطبراني: المعجم الكبير (16211). وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني، ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 6/27.
[2] ابن عبد البر: الاستيعاب 4/1927، وابن الأثير: أسد الغابة، 5/80، والنووي: تهذيب الأسماء واللغات 1/80.
[3] عن عمرو بن العاص في قصة إسلامه قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ (أي على النجاشي)، فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْمًا كَثِيرًا. أحمد (17812)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن في المتابعات والشواهد. وانظر: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 2/934.
[4] انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 3/896، وابن حجر: الإصابة 4/69، ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/3، وابن الأثير: أسد الغابة 1/355، 3/232، والمزي: تهذيب الكمال 14/492، واختلف في اسمه في الجاهلية: قيل: بجير. وقيل: بحير.
[5] قال ابن إسحاق: وكان عمارة رجلًا جميلًا وسيمًا، يفتن النساء، صاحب محادثة، فركب البحر، ومع عمرو بن العاص امرأته حتى إذا سارا في البحر ليالي أصابا من خمر معهما، فلما انتشى عمارة بن الوليد قال لامرأة عمرو: قبليني. فقال عمرو: قبلي ابن عمك. فقبلته، فألقاها عمارة بن الوليد فجعل يريدها عن نفسها، فامتنعت منه؛ ثم إن عمرًا قعد على منجاف (هو ذنب السفينة الذي تعدل به) السفينة يبول، فدفعه عمارة في البحر، فلما وقع فيه، سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة، فقال له عمارة: أما والله لو عرفت يا عمرو أنك تسبح ما طرحتك! ولكن كنت أظنك لا تحسن السباحة. فلما قال ذلك عمارة لعمرو ضغن عليه عمرو في نفسه، وعرف أنه قد أراد قتله، ومضيا في وجههما حتى قدما أرض الحبشة. ابن إسحاق: السير والمغازي ص167، 168، وقال الطبراني: «وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَجُلًا قَصِيرًا، وَكَانَ عُمَارَةُ رَجُلًا جَمِيلًا، وَكَانَا أَقْبَلَا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَشَرِبُوا -يَعْنِي خَمْرًا- وَمَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ، قَالَ عُمَارَةُ لِعَمْرٍو: مُرِ امْرَأَتَكَ فَلْتُقَبِّلْنِي، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَلَا تَسْتَحِي؟ فَأَخَذَ عُمَارَةُ عَمْرًا فَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ، فَجَعَلَ عَمْرٌو يُنَاشِدُ عُمَارَةَ حَتَّى أَدْخَلَهُ السَّفِينَةَ، فَحَقَدَ عَمْرٌو عَلَى ذَلِكَ». المنتخب من مسند عبد بن حميد ص193 (550)، وابن أبي شيبة: المصنف 7/350، والسهيلي: الروض الأنف 3/146-149، والذهبي: تاريخ الإسلام 2/134، وابن كثير: البداية والنهاية 3/89، 90، 96، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/31، وقال البوصيري عن رواية عبد بن حميد: هذا إسناد رواته ثقات. انظر: إتحاف الخيرة المهرة 5/78، وقال الصالحي الشامي: روى الطبراني برجال الصحيح عن أبي موسى الأشعري. انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 2/393، وذكره الألباني في صحيح السيرة النبوية ص181.
التعليقات
إرسال تعليقك